تفاقم النزاعات أخطر ما يهدد ازدهار القارة السمراء
تلقّت المساعي الأفريقية لتحقيق ازدهار مستمر ومستدام ضربة موجعة في العام الماضي جرّاء أزمة كوفيد-19، إذ تشير تقديرات البنك الأفريقي للتنمية إلى تراجع اقتصاد القارة الأفريقية بنسبة 2,1 بالمائة عام 2020، على النقيض من توقعات النمو التي بلغت 3 بالمائة قبل الجائحة، ناهيك عن انحدار 30 مليون نسمة تقريباً إلى حد الفقر المدقع. ويتوقع البنك انتعاشاً قوياً في عام 2021 بنمو قدره 3,4 بالمائة، إلا أنه من المتوقع احتمال وصول 40 مليون نسمة آخرين إلى ما دون خط الفقر، في دلالة واضحة على طبيعة التعافي المتفاوتة والنمو السكاني السريع (تحتل 18 دولة إفريقية المراكز العشرين الأولى على مستوى العالم في معدل الخصوبة)، في حين يمثّل استمرار سوء الإدارة الاقتصادية، والفساد، والزيادة المتسارعة في عبء الدين تحدياتٍ طويلة الأمد في وجه النمو والتنمية.
يمثّل التدهور الأمني الحاد رأس الحربة في مجموعة العوائق التي تهدد نمو القارة السمراء وتطورها، فعلى خلاف العقد الأول من الألفينيات التي شهد فيها الأمن تحسناً ملحوظاً، أصبحت أفريقيا منذ 2010 مرتعاً لعدد من حركات التمرد التي تشنّ حروباً تتسبب في إزهاق آلاف الأرواح وتشريد الملايين دون أن يكون هناك أفق لإحلال السلام. ومن أبرز هذه النزاعات:
- تعرُّض منطقة الساحل الأفريقي لمجموعة من الصراعات العنيفة التي بدأت بسقوط نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا عام 2011، إذ استغلت الجماعات الجهادية الصراعات العرقية والإقليمية المتأصلة من جهة ونشوء جيل من الشباب المحروم من الفرص الاقتصادية من جهة أخرى، لتوسيع نفوذها جنوباً، مهددةً بذلك دول غرب أفريقيا الساحلية المستقرة منذ زمن بعيد.
- لا يختلف المشهد كثيراً في نيجيريا، حيث تمكّنت جماعة بوكو حرام الجهادية والجماعات المنشقة عنها من تثبيت أقدامها في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد، إضافة إلى تواجدها في المناطق الحدودية مع الكاميرون والنيجر.
- ما يزال الصومال بأكمله تقريباً خارج إدارة السلطة المركزية منذ 30 عاماً بعد انهيار الحكومة إبّان انتهاء الحرب الباردة، وما تزال حركة الشباب المتمردة قوية في المناطق الريفية وقادرة على تنفيذ الهجمات في مقديشو والمناطق الحدودية، على الرغم من مليارات الدولارات التي تُنفق على تدخلات الاتحاد الأفريقي والدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
- ما تزال جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى غارقتين في حروب أهلية متواصلة، على الرغم من وجود قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بتكلفة مليار دولار سنوياً، وما من دلائل توحي باقتراب رحيلها بعد 22 سنة من تواجدها في الكونغو.
- نشأ النزاع الأحدث في إثيوبيا، الدولة ذات الاقتصاد الأسرع نمواً في أفريقيا في السنوات الأخيرة، إذ انرلقت البلاد إلى حرب أهلية في نهاية 2020 بين حكومة أديس أبابا ومتمردي منطقة تيغراي.
وليست النزاعات التي ذُكرت آنفاً سوى غيضٌ من فيض لأبرز النزاعات المقلقة الدائرة في القارة الأفريقية والمصحوبة بتفاقم التمرد شمال موزمبيق والحرب الانفصالية في الكاميرون. وعلى الرغم من التطورات الملحوظة التي شهدتها ليبيا والسودان وجنوب السودان خلال الأشهر القليلة الماضية في سبيل فض النزاعات، إلا أن إحلال السلام في هذه الدول لا يبدو وشيكاً في المستقبل القريب.
تُسبب هذه الصراعات خسائر بشرية فادحة تتضمن ضحايا الحروب، والوفيات جرّاء نقص الخدمات، والإصابات الجسدية الدائمة والأمراض العقلية، ناهيك عن أثرها السلبي الهائل على الاقتصاد الأفريقي لدرجة يصعب تقديرها، لاسيما على مستوى إقبال المستثمرين الذين يتجنبون المناطق غير المستقرة وينأون بأنفسهم عنها لمجرد وجود توقعات بنشوء نزاع فيها. وتشير بعض الدراسات الأكاديمية إلى أن الصراع يمكن أن يقلّص الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 2 إلى 3 بالمائة وسطياً، وتعتبر أثيوبيا مثالاً حيّاً على ذلك، حيث تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن أثيوبيا لن تحقق أي نمو في عام 2021، بعد أن شهدت نمواً بنسبة 9 في المائة تقريباً طوال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. تجدر الإشارة إلى أن التدهور ليس سببه الصراعات الدائرة فحسب، بل إن جائحة كوفيد-19 ألقت بظلالها الثقيلة على المشهد الاقتصادي الأفريقي، ولعل الازدهار الذي شهده إقليم تيغراي قبل الجائحة خير شاهدٍ على ذلك.
ولا يقتصر أثر الصراعات الأفريقية على القارة بمفردها، بل يطال كذلك الحكومات الإقليمية والمجتمع الدولي بأسره. فمن المتوقع أن تستهلك أفريقيا 90 بالمائة تقريباً من ميزانية قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لعام 2021 والبالغة 7 مليارات دولار أمريكي، دون إغفال المليارات الأخرى لتمويل تدخل الاتحاد الأفريقي في الصومال، والتدخل الفرنسي في الساحل الأفريقي، والتدخل الأمريكي في جميع أنحاء القارة لاسيما شرق أفريقيا، وغيرها من التدخلات الأخرى. وعلى الرغم من تكلفتها الباهظة، إلا أن الأثر الإيجابي لهذه التدخلات ما يزال موضع جدال. ففي دول مثل الكونغو، وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، ما من "سلام" ينبغي على قوات حفظ السلام المحافظة عليه، مما يجعلها في مرمى الخطر نظراً لانعدام الثقة بجميع الأطراف. ورغم أن التدخل الفرنسي في الساحل الأفريقي أسفر عن انتصارات تكتيكية ضد أهداف متمردة، إلا أنه أدى كذلك إلى تنامي مشاعر العداء لفرنسا، في حين ساهمت حركة الشباب التي ترفض الاعتراف بحكومة مقديشو في تعزيز وجود الجيوش الإقليمية في الصومال لا سيما قوات أثيوبيا التي تعتبر العدو التاريخي للبلاد.
في نهاية المطاف، يبدو جليّاً من حالة انعدام الأمن وتفشيها في أفريقيا أن الأساليب المتبعة في السيطرة على الوضع الأمني الراهن لن تجدي نفعاً رغم تكلفتها الباهظة. فالجنون هو فعل الشيء ذاته مراراً وتكراراً وتوقّع نتيجة مختلفة، وبالتالي بات اتباع منهجية جديدة - أو ربما حاسمة - أمراً لا مفر منه من أجل تحقيق الأمن لأفريقيا إذا ما أردنا للقارة السمراء استغلال إمكاناتها على أكمل وجه، مع إيلاء أهمية خاصة لضمان قدرة الجيوش الأفريقية على مواجهة تهديدات حركات التمرد على أراضيها دون مساعدة خارجية.
منذ نهاية الحرب الباردة عانت القوات الأمنية الأفريقية من انخفاض مضطرد وسريع في بعض الأحيان في التمويل وتراجع المساعدات الواسعة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وعلى الرغم من أن انخفاض الميزانيات يمثّل فصلاً واحداً من فصول الرواية مع تفشي الفساد ودوره الذي لا يخفى على أحد، إلا أن العقد الماضي أثبت بما لا يدع مجالاً للشك ضآلة القدرات التي تمتلكها الجيوش الأفريقية في مواجهة حركات التمرد. تعد تكلفة تحسين الجيوش الأفريقية منخفضة نسبياً مقارنة بما تحققه من نتائج، والتي يمكن بلوغها من خلال التدريب الميداني طويل الأجل في كل دولة، وتوفير معدات عسكرية مناسبة، وربما تقديم دعم تكميلي لميزانيات رواتب القوات العسكرية. فعلى سبيل المثال، تدفع الدول الداعمة لقوات الأمم المتحدة 1,428 دولاراً أمريكياً لكل جندي شهرياً، بينما يتقاضى المجنّد في الجيوش الأفريقية راتباً شهرياً قدره 100 دولاراً أمريكياً. بناءً على ذلك، فإن تنمية الكفاءات المحلية لها قيمة تفوق الأموال المدفوعة وقد تعود بنتائج لا تقدر بثمن، في حين يساهم رفع كفاءة الجيوش الأفريقية في التأكيد على معايير حقوق وكرامة الإنسان التي ذاقت القوات الأفريقية بسببها الأمرّين أثناء النزاعات.
ولم يعد بالإمكان إغفال مسألة شرعية التدخلات الدولية في الدول التي تشهد نزاعات محليّة . فكما ذكرنا آنفاً، ترزح فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، تحت وطأة انتقادات متنامية في القارة جرّاء ما تراه العديد من الدول الإفريقية كمنهجية انتقائية لإحلال السلام تنصبّ على ترسيخ المصالح الفرنسية بدلاً من مصالح الدول التي أتت لنجدتها. وكلما طال الوجود الفرنسي، ازدادت قدرة الجماعات المتمردة على استخدامه كذريعة لتقويض شرعية الحكومات المحليّة. ولا يختلف الأمر كثيراً في الصومال أو نيجيريا أو موزمبيق، حيث تلجأ الحكومات فيها إلى توظيف المرتزقة في هذه النزاعات. فالأطراف المحليّة في نهاية المطاف هي وحدها من يحظى بشرعية التعامل مع تهديدات التمرد بكفاءة واستدامة، في حين يعتبر تدخل الأطراف الخارجية إجراءً مؤقتاً لا أكثر مما يجعل تمكين القوات الأفريقية المحلية على المدى البعيد ضرورة حتمية.
ولا شك أن هذه المنهجية لن تكون سريعة أو سهلة التطبيق. فأمريكا لم تحرز تقدماً كبيراً في بناء القدرات العسكرية الصومالية رغم كل الجهود التي بذلتها على مدى فترة زمنية طويلة. فضلاً عن ذلك، لن تكون هذه المنهجية ملائمة لكل الظروف، فمن المحتمل أن تكون الجهود الدولية لرفع كفاءة الجيش الأثيوبي في خضم حرب أهلية تصرفاً بعيداً كل البعد عن المسؤولية في هذا الوقت. ومع ذلك، تبقى تنمية الكفاءات المحلية الطريقة الوحيدة القابلة للتطبيق لإرساء الأمن المستدام، لا سيما من حيث التكاليف والمكاسب. أما على المدى الطويل، فسوف ينجم عن استمرار انعدام الأمن أو تفاقمه في القارة الأفريقية تبعات اقتصادية تطال العالم بأسره، ويمكن للإجراءات المدروسة بعناية أن تقطع شوطاً طويلاً في سبيل تخفيف هذه التبعات.