هل تتراجع أهمية التصنيع في الاقتصادات الناشئة بوتيرة أسرع من اللازم؟
مع تزايد مستويات غنى الدول المتقدمة، بدأت تلك الدول تعيش حالة من "التحول الهيكلي"، مما يعني أنها مرت بفترة من التحول الصناعي، مع انتقال مركز الثقل الاقتصادي من الزراعة إلى التصنيع، ثم مرت بفترة من تراجع أهمية التصنيع، حيث انتقل التركيز من التصنيع إلى الخدمات، وسنناقش هذا التحول بمزيد من التفصيل في مقال آخر.
كيف يمكن مقارنة ذلك بالتجربة الأكثر حداثة للاقتصادات الناشئة؟ وهل تتبع الدول النامية حالياً عملية مماثلة من التحول الهيكلي؟
سنبيّن في هذا المقال أن أنماط التحول الهيكلي في الدول النامية مختلفة عن مثيلاتها في الاقتصادات المتقدمة وما بعد الصناعية، وسنشير تحديداً إلى أن أهمية التصنيع تتراجع في الاقتصادات النامية بشكل أسرع، وسنوضح كيفية وسبب ذلك وما إذا كان هذا الأمر مدعاة للقلق.
كما سنناقش في القسم الأول التوجهات العامة للتحول الصناعي. وبعد أن نحدد الأنماط المشتركة، سنقوم بتحليل الجوانب المحددة التي تجعل من التحول الهيكلي في الدول منخفضة الدخل مختلفاً، إن لم يكن معضلة في بعض الأحيان.
التحولات الهيكلية في جميع أنحاء العالم
الصناعة
يمكن استخدام التغيّرات في أنماط التوظيف بمختلف قطاعات الاقتصاد كوسيلة لدراسة عملية "التحول الهيكلي" في الدول. ويبين الرسم البياني أدناه حصة الصناعة من إجمالي الوظائف (المحور العمودي) مقارنةً بالناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد (المحور الأفقي). ويعتبر هذا الرسم البياني "مخططاً مبعثراً مع خطوط متصلة"، حيث يبين كل خط المسار الذي اتخذته الدولة على مر الزمن عبر هذين البعدين. وتتوافر بيانات من أكثر من 40 دولة من قارات مختلفة.
يشتمل الرسم البياني على الكثير من المعلومات، ولكن من السهل تحديد النمط: إذ توجد علاقة ذات خطوط محدّبة بين التحول الصناعي (المتمثل بحصص التوظيف) والدخل. وتكون الحصة العاملة في قطاع التصنيع منخفضة في الدول مرتفعة ومنخفضة الدخل.
ويمكننا كذلك ملاحظة أن النمو الاقتصادي عند مستويات منخفضة من الناتج المحلي الإجمالي، يتماشى مع تزايد حصة التوظيف في قطاع الصناعة، ثم يصل القطاع الصناعي إلى ذروته عند نقطة متوسطة من الدخل القومي، ثم تنعكس العلاقة بعد تلك النقطة، ويتماشى النمو الاقتصادي مع تدني حصة التوظيف في القطاع الصناعي.
وإذا أردنا استطلاع التوجهات في دولة محددة، يمكن استخدام خيار البحث في أسفل الرسم البياني، أو يمكن الضغط على أسماء القارات على الجانب الأيمن لتحديد الأنماط الإقليمية.
ولكن لا تشترك جميع الدول بهذا النمط الذي يتخذ شكل حرف (U). يرجى مراجعة كولومبيا على سبيل المثال، ويمكننا أن نلحظ بعض التفاوتات الهامة حتى بين الدول التي ينطبق عليها هذا النمط.
على سبيل المثال، يختلف ارتفاع "التحدّبات" بشكل كبير بين الدول، وبالفعل نجد أن أعلى حصص التوظيف في القطاع كانت في صفوف أولى الدول التي اعتمدت التحول الصناعي مثل بلجيكا وفرنسا وألمانيا والسويد والمملكة المتحدة، والتي بلغت 40 في المائة قبل بدء تراجع أهمية التصنيع (يمكنكم الاطلاع على مزيد من المعلومات هنا)، فيما كانت الدولتان الوحيدتان اللتان بلغتا مستويات مماثلة من التحول الصناعي خارج أوروبا هما موريشيوس وتايوان.
ويمكن استخدام الزر المنزلق أسفل الرسم البياني لتغيير الإعدادات الزمنية، وإذا قمنا بنقل الزر المنزلق حتى عام 2010، فسيُظهر الرسم البياني لمحة سريعة عن الارتباطات على امتداد الدول بين متوسط الدخل القومي وحصة التوظيف في الصناعة. ويكشف هذا الأمر أن الارتباطات على امتداد الدول خلال أي فترة زمنية تماثل الارتباط ضمن الدولة على مر الزمن، ما مما يعني، وضمن المقطع العرضي، أن أغنى الدول وأكثرها فقراً تشترك معاً بأدنى عدد من حصص التوظيف في القطاع الصناعي، في حين تترافق وبمرور الوقت أقل حصص التوظيف في القطاع الصناعي في الدول المنفردة مع فترات تتمتع بأدنى أو أعلى مستويات الدخل.
ويمكن أيضاً استكشاف الأهمية النسبية للتصنيع والقطاعات الصناعية الأخرى عبر دراسة الناتج الإجمالي للدولة. ويظهر ذلك في الرسم البياني التالي الذي يخطط حصة الصناعة من الناتج المحلي الإجمالي (المحور العمودي)، مقارنةً بالناتج المحلي الإجمالي للفرد (المحور الأفقي).
وعلى الرغم من ظهور الأنماط المحدّبة ذاتها، إلا أننا نجد نقطتين هامتين هنا تستحقان مناقشتهما بمزيد من التفصيل.
تتمثل النقطة الأولى في الرسم البياني أدناه بأن الصناعة في دول مثل بوتسوانا وزامبيا ونيجيريا وفنزويلا تتمتع بحصة كبيرة للغاية من الناتج المحلي الإجمالي مقابل حصص التوظيف. ويمكن أن يُعزى هذا الاختلاف إلى كون هذه الدول من أكبر المصدّرين للموارد الطبيعية، حيث تكون قطاعات التعدين واستخراج النفط التي تظهر ضمن البيانات كجزء من "الصناعة"، من أكبر مستهلكي رأس المال، وتولد عائدات كبيرة نسبةً للقوى العاملة المستخدمة.
أما النقطة الثانية فهي أن الأنماط الملحوظة تعتمد على المقياس الفعلي المستخدم لتحديد الأهمية النسبية لكل قطاع. ولأغراض تبسيط الموضوع يمكننا القول أن: الأنماط المحدّبة ستختلف إذا كنا ندرس حصص التوظيف أو الناتج المحلي الإجمالي. فإذا أخذنا كوريا الجنوبية على سبيل المثال سنجد من حصص التوظيف في الرسم البياني السابق أن أهمية الصناعة في كوريا الجنوبية بلغت ذروتها عام 1992، إلا أنه عند دراسة حصص الناتج سنجد أن الأهمية النسبية لهذا القطاع لم تبلغ ذروتها بعد.
وذلك ليس بالأمر المستغرب، إذ أن الناتج الإجمالي المحلي يقيس النواتج في حين تقيس نسبة التوظيف المدخلات، ولذا من الطبيعي توقع أن يقدم هذان المقياسان للتحول الصناعي منظورين مختلفين نوعاً ما.
لقد قمنا في الرسم البياني أعلاه بتخطيط مقاييس السعر الحالي للقيمة المضافة، مما يعني أن الأرقام تتوافق مع تقديرات قيمة الناتج المحسوب عند الأسعار السائدة عند احتسابه. ولكن هل يعتبر هذا الأمر مهماً بالنسبة لنا؟ الجواب هو نعم بالطبع. تتألف التغيرات في قيم الإنتاج بين أي عامين عند قياسها بهذه الطريقة، من مجموعة من التحركات في الأسعار والكميات، لذا يمكن أن تبدو الصورة مختلفة إذا اخترنا عرض أرقام القيمة المضافة في الأسعار الثابتة (أي تقدير قيمة الناتج وفقاً للأسعار السائدة عند نقطة زمنية ثابتة)، وسنناقش هذه النقطة بمزيد من التفصيل في الملاحظة الفنية بآخر هذا المقال. وتتلخص الملاحظة الأساسية هنا في أنه عند تثبيت الأسعار يكون نمط تراجع أهمية التصنيع أقل وضوحاً في الدول الغنية.
ويعزز ذلك ما ذكرناه مسبقاً: تقدم الوسائل البديلة لقياس ثقل التصنيع والقطاعات المرتبطة به في الاقتصاد منظورات مختلفة للتحول الصناعي، وبأخذ ذلك بعين الاعتبار، لننتقل إلى دراسة التحول الصناعي من منظور القطاعات الأخرى وخاصة تلك المتداخلة معه.
الزراعة والخدمات
إذا تغيّر ثقل القطاع الصناعي في الاقتصاد، فإن ذلك سينعكس بالتأكيد على قطاعات أخرى وخاصةً الزراعة والخدمات. ويبيّن الرسمان البيانيان التاليان حصص التوظيف في قطاعي الزراعة والخدمات مقارنةً بالناتج المحلي الإجمالي للفرد. ويمكننا ملاحظة أنه في جميع الدول ذات البيانات المتوافرة، كان النمو الاقتصادي يعني ابتعاد اليد العاملة عن قطاع الزراعة (الرسم البياني الأول أدناه) وانتقالها نحو قطاع الخدمات (الرسم البياني الثاني أدناه).
ويمكن أن نلحظ أنماطاً مماثلة إذا قمنا بتخطيط حصة الناتج من الزراعة وحصة الناتج من الخدمات مقارنةً بالناتج المحلي الإجمالي للفرد.
وتبين الأدلة بمجموعها أن "التحول الهيكلي" ظاهرة واسعة الانتشار، حيث تميل الدول للدخول في مرحلة من التحول الصناعي أولاً، حيث ينتقل النشاط الاقتصادي من الزراعة إلى الصناعة، ثم تمر بفترة من تراجع أهمية التصنيع ليكون الانتقال من الصناعة إلى الخدمات.
ولا يعكس ذلك بالضرورة طغيان قطاعي الصناعة والخدمات الحيويين على القطاع الزراعي الراكد، بل يمثل تغيرات في الإنتاجية النسبية حين يكون أحد القطاعات مهيمناً على قطاع آخر. (يمكنكم الاطلاع على المزيد حول التغيرات النسبية مقارنةً بالتغيرات المطلقة ضمن سياق التحول الهيكلي هنا).
مفهوم "التراجع السابق لأوانه لأهمية التصنيع"
على الرغم من الأنماط الواسعة الملحوظة التي ناقشناها حتى الآن، إلا أن من السهل ملاحظة عدم مرور جميع الدول بالمراحل المختلفة للتحول الهيكلي عند المستويات ذاتها من التنمية الاقتصادية. وبمقارنة جنوب أفريقيا وإيطاليا في الرسم البياني أعلاه، سنلاحظ أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد في جنوب أفريقيا في عام 2007 كان مماثلاً لإيطاليا عام 1960. إلا أن حصة التوظيف في قطاع الخدمات في جنوب أفريقيا عند هذا المستوى من التنمية الاقتصادية كانت أكبر بكثير (الضعفين تقريباً).
وتحمل هذه الملاحظات دلالات أوسع، إذ أن العديد من الاقتصادات الناشئة وخاصةً الأفريقية منها، تمر بمرحلة من "التراجع السابق لأوانه لأهمية التصنيع"، أي أنها اختبرت انتقالاً أسرع بكثير إلى قطاع الخدمات مقارنةً بالتغيرات التي مرت بها الدول الرائدة في اعتماد التحول الصناعي عند مستويات مماثلة من التنمية الاقتصادية.
وبالطبع، لا يحدث "التراجع السابق لأوانه لأهمية التصنيع" في كل مكان، وتعود الأنماط الواسعة التي لاحظناها بين الدول في معظمها، إلى تركز التصنيع العالمي في دول مثل الصين. ولكن يبدو في الواقع أن الصناعة أدت دوراً أكبر في تجارب النمو الخاصة بالدول الغنية حالياً، من معظم الدول الأكثر فقراً حالياً.
لنلقِ نظرةً على مسببات هذا الأمر وتأثيراته السلبية والإيجابية.
ما هي مسببات التراجع السابق لأوانه لأهمية التصنيع؟
أشار داني رودريك، في أحد أبحاثه التي يتم الاقتباس عنها بكثرة، بأن "التراجع السابق لأوانه لأهمية التصنيع" يمكن أن يعود إلى عاملين وهما التطور التكنولوجي والتجارة الدولية.
وساهم التطور التكنولوجي خلال العقود الماضية في تخفيض تنافسية الدول منخفضة الدخل ذات النسبة الأصغر من اليد العاملة الماهرة، كما دخلت العديد من الدول في الماضي قطاع التصنيع عبر المشاركة في بداية الأمر في أنشطة بسيطة تتطلب الكثير من الجهد ثم انتقلت إلى درجات أعلى من قطاع التصنيع. وأصبحت هذه الاستراتيجية، خلال الأعوام الماضية، أقل نفعاً نظراً لتزايد متطلبات المهارات في قطاع التصنيع، ولم يعد بإمكان المزارعين حالياً الانتقال ببساطة للعمل في المصانع بعد استثمارهم على نحو بسيط في التدريب.
ساهمت العولمة بدورها، إضافةً إلى التطور التكنولوجي الموفّر للجهد، في تضخيم الآليات المذكورة آنفاً. هذا وتعمل القوى المحركة للميزات المقارِنة، على مفاقمة الصعوبات التي تواجهها الدول منخفضة الدخل والتي تحاول الدخول إلى قطاع التصنيع العالمي عالي التنافسية.
وكتب رودريك في مراجعة نشرت مؤخراً حول البحث: "لقد تم في الوقت الراهن توثيق حقيقة تزايد اعتماد التصنيع على المهارات خلال العقود الماضية، وساهم ذلك، إضافةً إلى العولمة في زيادة صعوبة دخول القادمين الجدد إلى الأسواق العالمية للتصنيع بشكل كبير، وتكرار تجربة نجوم التصنيع في آسيا. وباستثناء حفنة من المصدرين، فإن الاقتصادات الناشئة تعاني من تراجع سابق لأوانه في أهمية التصنيع، ويبدو أن الدول المتأخرة لم تتمكن من اللحاق بالركب".
ومن المحتمل أن تبقى هذه القيود سائدة خلال الأعوام المقبلة، وما لم تتوسع المهارات والتدريب بشكل كبير، فإن الأتمتة والتطورات التكنولوجية المقبلة ستساهم في تصعيب سير الدول الفقيرة اليوم على الدرب الذي اتخذته الدول التي اعتمدت التحول الصناعي باكراً.
ما سبب أهمية ما سبق؟
يمكن أن يكون للإخفاق في تطوير قطاع ثانوي كبير تأثيرات هامة. إذ توجد أولاً عواقب في إعادة التوزيع، حيث تميل الصناعات البسيطة للاعتماد على الجهد بشكل كبير، لذا تقدم فرص عمل للعمال القادمين من الريف بسهولة نسبية. وثانياً يمكن أن يكون هناك عواقب على الكفاءة، حيث يخفض الإخفاق باللحاق بـ"ركب التصنيع" من احتمالات النمو نظراً لكون قطاعات التصنيع عاملاً مساعداً لنمو الإنتاجية. وتأتي هذه النقطة الخاصة بالكفاءة انطلاقاً من كون قطاع التصنيع قادراً على استيعاب التكنولوجيا القادمة من الخارج وتوليد أعمال عالية الإنتاج، أكثر من أي قطاع آخر.
وإضافةً إلى هذه العوامل، يمكن أن تكون هنالك عواقب أخرى ينبغي أخذها بعين الاعتبار، مثل تلك المرتبطة بتطوير المؤسسات. فعلى سبيل المثال، يشير رودريك إلى أن التحول الصناعي كان حيوياً لتطور حركة العمل، والتي أدت إلى توسع حقوق التصويت وقيام دول الرفاهية في نهاية المطاف. وبالفعل فإن منشورات الاقتصاد السياسي تشير إلى أن التفاوض بين النخبة والعمال المنظمين أدى دوراً أساسياً في تطوير الديمقراطية، وبما أن التراجع السابق لأوانه لأهمية التصنيع يمكن أن يسفر عن ضعف تنظيم العمال في الدول منخفضة الدخل حالياً، فإن ذلك يمكن أن يؤدي بتلك الدول إلى مسار من التنمية السياسية قد لا يفضي بهم إلى الديمقراطية التقدمية في نهاية المطاف.