هجرة الأدمغة الفنلندية: ماذا يحدث للبلدان الصغيرة عندما تغادرها المواهب؟
ينجذب الشباب الفنلنديون العاملون إلى العواصم الأوروبية الكبرى، كستوكهولم وبرلين وأمستردام، وأحيانا إلى أماكن أخرى أبعد من ذلك: فالفرص المجزية متوافرة مثلا في دبي، وأفضل المؤسسات والمعاهد في العالم موجودة في نيويورك وواشنطن. وتتعدد مهن هؤلاء المهاجرين فمنهم المصرفيون، ومصممو الرسوميات، ومهندسو الحواسيب، والمصورون، والباحثون، وذلك كله على سبيل المثال لا الحصر.
ويغادر هؤلاء فنلندا بسبب قلة فرص العمل ومحدودية الآفاق المستقبلية، وهو أمر ليس مستجدا، حيث انتقل الفنلنديون إلى أمريكا الشمالية منذ 100 عام، وإلى السويد في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ ونتج ذلك في كلتا الحالتين عن حاجة الاقتصادات النامية إلى عمال المصانع.
ويتمثل الفرق بالنسبة للمهاجرين اليوم بأنهم حاصلون على مستويات تعليم أفضل، ويغادرون دولة رعاية اجتماعية تصنفها معظم المؤشرات كواحدةٍ من أفضل الأماكن للعيش بها في العالم. ومع ذلك فقد انخفض احتمال عودتهم بشكلٍ حاد في العقود الأخيرة. فإلامَ يُعزى ذلك؟
قمت بإجراء دراسةٍ استقصائية عن الفنلنديين الذين يعيشون في الخارج والذين تتراوح أعمارهم بين 20 و40 عاماً، مع يوهانس نيميلينن، الصحفي المقيم في هلسنكي. ومن بين 799 مشاركاً في الاستطلاع، اعتبر 19% منهم فقط العودة خيارا محتملا. وانخفض هذا المعدل بنسبة فاقت 20 نقطة مئوية بالمقارنة مع دراسة استقصائية أجريت في عام 2006، شملت أيضاً المتقاعدين الذين استقروا في الخارج. وكان الانخفاض أكثر حدةً عندما قارننا فقط الفئات العمرية التي تتراوح بين 20 و40 عاماً.
يأتي ذلك في الوقت الذي زادت فيه هجرة الأشخاص في سن العمل من فنلندا بصورةٍ مطردة. وبلغت الخسارة الصافية، التي قدّرت بنحو ألفي مواطن في عام 2015، نحو أربعة أضعاف ما كانت عليه في عام 2009، وكان أكثر من نصفهم قد تعلموا في الجامعات. ومن المثير للدهشة أن غالبية المغادرين كانوا من النساء. ولو قمنا بجمع الأمور كلها، فإننا نتحدث عن حالة من هجرة الأدمغة قد تترتب عليها عواقب وخيمة.
الحلقة المفرغة
توصلت دراسةٌ حديثة عن الرؤى الدولية للفنلنديين الذين يعملون في الخارج إلى أنهم يتمتعون بقابلية تكيّف عالية، وموهوبون لغوياً ومرغوبون للغاية. ومن الواضح أن دولة الرعاية الاجتماعية الفنلندية تقدم لمواطنيها المهارات والتعليم لينجحوا في العالم.
وتمثّل منطق الحكومة منذ أمدٍ بعيد بأن القوى العاملة ذات التدريب الجيد، والتي تتمتع بصحة جيدة سترد المعروف في مرحلة لاحقة من الحياة. ومن المفترض أن يعود المهاجرون إلى ديارهم وهم يتمتعون بانفتاحٍ عقلي أكبر واتصالات وخبرات دولية، بما يعود بالنفع على الاقتصاد ككل. ويقضي التصور السائد بأن تصبح جميع الدول جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي لكل مواطن على حدة.
ولكن لماذا قد يريد هؤلاء العودة إلى بلادهم؟ إن الثغرات في الحلقة المثمرة المفترضة في فنلندا واضحة للغاية، حيث يجذب البلد عدداً أقل من المهاجرين من الأماكن الأخرى في الاتحاد الأوروبي مقارنةً مع نظرائه الاسكندنافيين. ولا تستطيع هلسنكي مواكبة الركب حتى في هذه المنافسة، مع انخفاض عدد الأشخاص الحاصلين على درجة عالية من التعليم والذين تتراوح أعمارهم بين 30 و34 عاماً. والعكس هو الصحيح في العواصم الشمالية الأخرى مثل كوبنهاغن وستوكهولم ولندن.
ولا يمكن مقارنة مشكلة فنلندا بشكل مباشر بالهجرات الجماعية للعمال في الماضي، التي تلت اضطرابات ديموغرافية وسياسية واقتصادية هائلة ناتجة عن ظروف مثل الحروب العالمية. كما أنها ليست مماثلة ًللهجرة العالمية الحالية من البلدان الأكثر فقراً إلى البلدان الأفضل حالاً، والتي تضم للأسف دولا مثل إسبانيا واليونان.
وتعبر هذه المشكلة عوضاً عن ذلك عن تغييراتٍ هيكلية أوسع نطاقاً في دول الرعاية الاجتماعية في فترة ما بعد الحرب، فقد أجبرت عدة عناصر، بما فيها جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية المتقاعد وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والأزمة الاقتصادية، الدولة الفنلندية على تخفيض الإنفاق. وقد شجع الضرر الذي لحق بالاقتصاد ونظام التعليم الشباب على الانتقال إلى الخارج.
وغادر عدة أكاديميين بارزين فنلندا احتجاجاً على التخفيضات في نفقات التعليم العالي والتي بلغت نحو 500 مليون يورو (أي نحو 439 مليون جنيه استرليني). وتعزيزاً لذلك، وجدنا أن احتمال عودة المهاجرين ينخفض بحدة بين الحاصلين على درجة الدكتوراه، بما يبلغ نحو 36 نقطة مئوية منذ عام 2006. وكان هؤلاء الأكاديميون يميلون للإشارة إلى وجود علاقة مباشرة بين تخفيض الإنفاق في مجال التعليم وموقفهم من العمل في فنلندا؛ كما وجدنا مواقف مماثلة في القطاعات الأخرى.
ويوضح هذا الأمر أن مشكلة عدم العودة إلى الوطن سببها في النهاية العمل، حيث شعر معظم المشاركين بأنه لن يتم ترجمة الخبرة التي اكتسبوها في الخارج إلى وظائف أفضل في بلدهم.
التهديد الأكبر
تعتمد دول الرعاية الاجتماعية الصغيرة مثل فنلندا أكثر من سواها على القوة العاملة المتعلمة، بالمقارنة مع الدول التي تدفعها قوى السوق بشكل أكبر. وستخلق هذه الدول مشاكل هيكلية لاقتصاد الرفاه، مثل خسارة الاستثمارات الأجنبية، في حال لم تقم بتعليم أو توظيف عدد كافٍ من الأشخاص الجدد الوافدين من بلدان أخرى.
ويؤثر تخفيض الإنفاق في نظامٍ يتم تمويله بدرجةٍ كبيرة من قبل الحكومة المركزية، على الجميع أكثر بكثير من تأثيره في دولة يتركز فيها الإنفاق الحكومي بشكل أكبر على الناس الأكثر فقراً. ويزيد هذا الأمر من فرص مغادرة الموهوبين، مما يهدد بدوره بتقويض شبكات المعرفة والعلاقات الاجتماعية المنتجة في البلاد والتي غالباً ما توصف بأنها رأس المال الاجتماعي. ويشكل ذلك أساس نظام الرفاه برمته، ويلعب دور الحاجز في وجه الصدمات الخارجية، وبالتالي فإن المنظومة بأسرها معرضة للخطر.
وإلى جانب الضغوط الإضافية على دولة الرعاية الاجتماعية، والناتجة عن السكان المسنين، تمتلك هذه التطورات القدرة على التزايد بصورة لا رجعة فيها. ويمكننا أن نشبه ذلك بتسرب النفط من محرك السيارة: فهو لا يؤثر على المعدات على الفور، ولكنه قد يلحق بها، بمرور الوقت، ضررا لا يمكن إصلاحه.
إذاً ما هو الحل؟ وجدنا في 16 مقابلة أجريت لاحقاً أن المشاركين الشباب المهنيين لا يزالون فخورين إلى حد كبير بنظام الرعاية الاجتماعية الفنلندي وقلقين حياله في الوقت نفسه. وعلى الرغم من أنهم أخرجوا من هذا النظام، إلا أنهم لا يزالون يؤمنون بقوة بالنظام الذي عاشوا في كنفه.
ويشير هذا إلى إمكانية نشوء أشكالٍ جديدة من التضامن والرفاه التي قد تعود بالنفع بطريقة ما على بلدان مثل فنلندا. وتقتضي الاستفادة من هذا الأمر تجاوز نطاق الدولة القومية، وإنشاء نظم رفاهية جديدة عابرة للحدود الوطنية، إما من خلال التواصل مع المهاجرين أو التعاون مع بلدان تشهد حالات مماثلة. ومن شأن هذا التغيير أن يكون جذرياً بطبيعة الحال، من أجل منع مشكلة هجرة الأدمغة هذه من التحول إلى كارثةٍ بكل المقاييس.