فرنسا تختبر نهجاً تعليمياً مختلفاً جذرياً
يُقال أن وزير التعليم الفرنسي كان يستطيع معرفة ما يتعلمه كل طالب في البلاد في ذلك اليوم بالتحديد بإلقاء نظرة على المنهج الدراسي الوطني، أو المنهج الدراسي الإلزامي (programme d'enseignement obligatoire).
ومنذ وضعت أساسات التعليم العلماني المجاني، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، تفتخر فرنسا باتباع نهجٍ فائق الانضباط في مجال التعليم، حيث كانت السياسات المركزية، بدءاً من الأجور ووصولاً إلى تعيين الموظفين، توضع بحزم من قبل المركز.
وأُثيرت تساؤلات كثيرة، خلال الأعوام الماضية، حول النموذج الفرنسي، وخاصةً مع تراجع أداء الطلاب الفرنسيين الذين تبلغ أعمارهم 15 عاماً في مجال الرياضيات ضمن تصنيفات البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA)، الذي تجريه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، من 511
نقطة في عام 2003 إلى 493 نقطة في عام 2015. وعلى الرغم من أن هذه التصنيفات لا تزال ضمن المعدل المتوسط، إلا أن هذا التراجع يدعو إلى القلق.
كما ظهرت أيضاً انتقاداتٌ مفادها أن النظام يخدم المتفوقين ولكنه يخفق في خدمة الآخرين.
وفي هذا الصدد، قال إريك شاربونييه، خبير التعليم في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في تصريح لصحيفة "لو باريسيان": " يعاني 20 في المائة من الطلاب من وضع مقلق، وهم في معظمهم أطفال من أوساطٍ محرومة".
المشاكل الأساسية
سلّطت دراساتٌ عدة الضوء على أهمية التعليم الابتدائي الجيد، الذي يشكّل الركيزة الأساسية لجميع مراحل التعليم التي تليه. وأشارت مجلة "ذي إيكومنوميست" إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووزير التعليم جان ميشيل بلانكر، "وضعا إصلاح نظام التعليم الابتدائي في صلب سياستهما لمكافحة الإخفاق الدراسي وتحسين فرص الحياة".
وتضمنت تلك الإصلاحات تقليص عدد الطلاب في صفوف المدارس الابتدائية التي ترتادها الفئات المحرومة. فقد كانت الصفوف الدراسية تحتوي على 30 طالباً أو أكثر، ولكن وفقاً لصحيفة "ذا لوكال"، سيتم خفض عدد الطلاب في السنة الدراسية الأولى في المناطق ذات الأولوية، التي تُعتبر عدم المساواة التعليمية فيها مشكلةً لا بد من معالجتها، إلى 12 أو 13 تلميذاً فقط في كل صف دراسي.
وسيتأثر نحو ألفي فصل دراسي في جميع أنحاء الدولة بهذه التغييرات.
المصدر: Hadrian / Shutterstock.com
تشجيع الاختلاف
ويرغب وزير التعليم جان ميشيل بلانكر، الذي شغل سابقاً منصب مدير كلية "إيسيك" لإدارة الأعمال، بزيادة الاستقلالية والقدرات التجريبية في كل مدرسة، وتشجيع المدرّسين على التعليم متعدد المناهج، الذي يدرّس أكثر من مادة تعليمية واحدة.
كما أشار الوزير أيضاً أنه سيقوم بتغيير نظام التعليم الثانوي من خلال إصلاح امتحانات الشهادة الثانوية، التي نالتها اتهامات بأنها لا تخدم إلا ميسوري الحال.
وبحسب تقرير نُشر عام 2016 في صحيفة "ذا لوكال" كتبه أوليفر جي، فإن مؤسسات التعليم العالي مكتظةٌ إلى حد كبير، وينقصها التمويل، كما أن خمسة في المائة فقط من طلاب جامعات فرنسا البالغ عددهم 65 ألفاً، ينجحون في دخول مدارس ثانوية مرموقة.
دروسٌ عالمية
يسعى وزراء التعليم في جميع أنحاء العالم إلى تحسين تكافؤ الفرص من خلال تطوير نظام تعليم مصمّم بشكل مخصّص وشخصيٍّ، لا تشوبه عيوب الممارسات السابقة.
فنظام التعليم الفنلندي على سبيل المثال، وخلافاً للكثير من أنظمة التعليم الأخرى، لا يتضمن أي جداول تصنيف للعلامات الدراسية، أو واجبات أو اختبارات للطلاب دون سن 16 عاماً. ويتيح هذا النظام للمدرّسين اختيار المواضيع التي يتم تدريسها ويشجع الطلاب من مختلف الأعمار على التعاون والتفاعل فيمل بينهم. وسمحت هذه المقاربة المميزة لفنلندا أن تحتل مركزاً متقدماً في تصنيفات البرنامج الدولي لتقييم الطلبة.
وفي أكتوبر، أعلن بيل غيتس، رجل الأعمال المُحسِن ومؤسس شركة "مايكروسوفت" عن برنامج بقيمة 1.7 مليار دولار أمريكي للمدارس المهتمة بتطوير منهجيات جديدة للتعليم. وتتضمن الخطة تقسيم المدارس الكبيرة إلى مدارس أصغر حجماً وجمع البيانات بشكل أفضل للاسترشاد بها في التغييرات المستقبلية.
جامعة البرمجة
يعد نموذج التعليم الذي يتم استخدامه في كلية 42 للبرمجة، التي تتخذ من باريس مقراً لها، أحد نماذج التعليم المستقبلي المحتملة التي تدرس الحكومة الفرنسية اعتمادها، وهي جامعة قام بتأسيسها رائد الأعمال الملياردير الفرنسي، كزافييه نيل.
تتميز هذه الجامعة بعدم وجود محاضرات ولا مدرّسين، ويرتادها طلاب من جميع مناحي الحياة حيث يتعاونون للعمل على مشاريع يقوم أقرانهم بتقييمها. وبحسب إدارة الجامعة، فإن نحو 80 في المائة من طلابها يجدون عملاً قبل تخرجهم، ويحظى جميعهم بوظائف عند تخرجهم.
بالإضافة إلى التكنولوجيا، توفر الجامعة للطلاب إمكانية تطوير "المهارات الناعمة (أو الشخصية)" التي تشمل التفاوض والتعاون والتنسيق التي تبحث عنها الشركات.
ويتم العمل على اختبار نموذج مشابه في الولايات المتحدة، وهو يشمل الشركات أيضاً.
حيث ستعمل شركة "أوراكل" (Oracle) للبرمجيات على تمويل مدرسة "ديزاين تك" الثانوية (Design Tech High School) في وادي السليكون بكاليفورنيا، والتي يزمع افتتاحها في يناير المقبل، وتستهدف أيضاً الطلاب من الأوساط المحرومة.
وتشمل الفكرة مشاركة عدد من موظفي "أوراكل" الحرم الجامعي في سان ماتيو مع الطلاب، على أمل أن يتعلم الموظفون من الطلاب بقدر ما سيتعلم الطلاب منهم، فضلاً عن استخدام تكنولوجيا المعلومات لتحسين التعلم والنتائج.
منهجية قائمة على الذكاء الاصطناعي
من المرجح أن تكون التكنولوجيا، وخصوصاً برامج الذكاء الاصطناعي التي تستخدم التعلم الآلي، من المقومات الأساسية لنجاح تقديم التعليم الشخصي.
وأشارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تقرير لها، أن "نجاح التعليم الشخصي سيتطلب تعاوناً بين مصممي البرامج التربوية ومطوري التكنولوجيا في عدة تخصصات، بالإضافة إلى استغلال كامل قدرات الأجهزة الجوالة والشبكات اللاسلكية".
ويعتمد ذلك كله، بالنسبة إلى وزراء التعليم في جميع أنحاء العالم، على نجاح تجارب مثل مدرسة "ديزاين تك" ومدرسة "42"، بالإضافة إلى مدى ارتياح الناس لمشاركة الشركات في المدارس وجمع واستخدام بيانات الطلاب.
ويبدو أن فرنسا بدأت مسيرة التغيير، بغض النظر عن اعتماد الوزير بلانكر لنمط التعليم هذا. وسيتطلب ذلك حتماً بعض التنازلات، ولا سيما من جانب أولياء الأمور والمدرّسين والنقابات والخصوم السياسيين.
لكن قد يعتبر ماكرون وبلانكر أن أي معارضةٍ تواجههما تستحق العناء، في حال تمكّنا من تحسين فرص الحياة للفئات المحرومة، وتحديث مهارات العمال المستقبليين، وإنعاش الاقتصاد على المدى الطويل.