الطبيعة مصدر مستدام لإنتاج الأفكار وابتكار الحلول المستقبلية
يعتمد تخطيط مدن المستقبل على مفهوم جديد يبدأ بتبني مبادئ التخطيط البيئي، واعتماد نموذج "محاكاة الطبيعة" على نطاق أوسع، من خلال مواءمة متطلبات البشر مع الموارد الطبيعية الصديقة للبيئة، وتحسين أداء الاقتصاد الدائري بحيث يتم تعزيز الإنتاج المحلي بالاعتماد على مواد معاد تصنيعها.
وأكدت الدكتورة جانين بينوس مؤسس مشارك لـ"معهد محاكاة الطبيعة 3.8" خلال جلسة بعنوان "محاكاة الطبيعة لتصميم مستقبل مستدام للبشرية"، التي أدارتها كورين إيوزيو رئيسة تحرير مجلة "بوبيولار ساينس"، أن الانتهاك المستمر للبيئات الطبيعية لسائر المخلوقات يتسبب بانتشار فيروسات تهدد حياة البشر، على غرار فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19".
وتطرقّت بينوس إلى مفهوم "محاكاة الطبيعة" وضرورة تبنيه في تصميم المدن، وتطوير السياسات والاستراتيجيات المستقبلية، وأهميته في تعزيز التنمية المستدامة، مشيرة إلى أنه "ممارسة ابتكارية، تهدف إلى التعرف على المكونات الطبيعية والبيئة المحيطة بالبشر من أجل إعادة استنباط حلول مستدامة ومستمدة من الطبيعة."
وقالت إن نموذج "محاكاة الطبيعة" يشمل عدداً من الحلول الابتكارية التي يتم استخدامها، بما في ذلك سحب الكربون من الغلاف الجوي وتحويله إلى مواد أخرى مثل البلاستيك القابل للتحلل، وهي عملية تشبه ما تقوم به الطبيعة بشكل تلقائي من خلال امتصاص النباتات للكربون، كما تشمل النماذج تحويل الكربون إلى مادة قابلة للاستخدام في البناء عبر مزجها مع الإسمنت، وهي ظاهرة نراها في الشعاب المرجانية.
صحتنا من صحة الكوكب
وأكدت جانين بينوس أن ما يواجهه العالم من آثار جائحة "كوفيد-19"، يعطينا نظرة شاملة ويوفر أدلة على ارتباط صحة الإنسان، بصحة الكوكب، مشيرة إلى أن عدداً من النظريات تقوم على أن الفيروس انتقل إلى المجتمعات من حيوان الخفاش، وبالفعل فإن 76% من الفيروسات التي تواجه البشر مصدرها حيواني، بسبب سرعة التطور المدني وتوسع المجتمعات عبر عمليات البناء والزراعة والتعدين، وانتقالنا إلى مناطق كانت أساساً الموطن الطبيعي لهذه المخلوقات، ما تسبب في الاحتكاك بها، وانتقال العدوى.
وأوضحت أن هذا المبدأ يقود إلى عملية متكاملة تدعم بناء الكوكب والعالم، من خلال طرح الأسئلة المناسبة، وهي هل علينا دائما التنقيب عن الموارد الجديدة؟ ألا يمكننا تحسين أداء الاقتصاد الدائري وإعادة استخدام الموارد بشكل أفضل؟ بحيث تستثمر الحكومات في إعادة تدوير صناعية، تشمل إنتاج مواد تستفيد منها المجتمعات، بالاعتماد على ما تم استهلاكه.
وقالت: "الحياة تعتمد على هذا المبدأ، وهي أفضل مثال على نجاح الاقتصاد الدائري، إذ نرى ذلك في كل مناحي الطبيعة، ابتداء من الفطريات التي تتحول إلى نباتات تأكلها المخلوقات ضمن السلسلة الغذائية المعروفة".
إعادة اكتشاف الطبيعة
وأكدت المؤسس المشارك لـ"معهد محاكاة الطبيعة 3.8" أهمية تطوير الأبحاث الخاصة بعلوم الطبيعة، لتساعدنا على إيجاد حلول مبتكرة تعتمد على أساسيات علم الأحياء والعمليات الطبيعية، وتمويل هذه الأبحاث وتوجيهها نحو الاحتياجات الضرورية، والاستخدامات الحالية، وتحفيز تخصص الشباب فيها، بما يضمن تعزيز علوم الأحياء الموجهة.
وحول إمكانية تصميم مستقبل مستدام للبشرية، قالت بينوس: "ما نواجهه في علم الأحياء والطبيعة يختلف تماماً عما نعرفه في مواجهة فيروس كورونا، إذ إن التنوع البيولوجي على كوكبنا متشعب ولا نمتلك مرجعا شاملا يرصده، ويمكننا من معرفة كيف يمكن الاستفادة من العمليات الطبيعة"، موضحة أن ضمان موازنة العمليات الطبيعية يحتاج إلى تعزيز دور الحياة الشاملة في الطبيعة.
وأشارت إلى أن مفهوم "محاكاة الطبيعة" لا يصلح على صعيد المنتجات وأنماط الاستهلاك فحسب، بل يمكن تطبيق في مشاريع البناء الكبرى وتصميم المدن، عبر حلول بسيطة تسهم في إنتاج أفكار وإطلاق مبادرات تدعم تقديم خدمات صديقة للبيئة.
وأضافت: "محاكاة البيئة يعتمد على إعادة ما يكفي من القيم البيئية إلى البيئة المحيطة لمعادلة ما نستهلكه، فعلى سبيل المثال، إذا تمكنا من زراعة ما يكفي من الأشجار حول مبنى معين وتحويل جزء من مواد بنائه إلى مواد ممتصة للكربون وكذلك تحويل سقفه إلى خزان لحفظ مياه الأمطار، فعندها سيكون المبنى قد أعاد إلى الطبيعة قيماّ تعادل تلك التي أخذها منها."
مفهوم جديد للمدن
وأكدت أن المفهوم الجديد لمدن المستقبل سيعتمد على إمكانية إحداث تأثير إيجابي مستدام، من خلال تقديم خدمات جديدة نعيد فيها ما استهلكناه إلى الطبيعة، بعد أن نصل إلى المعادلة الرئيسية في موازنة انبعاثات ثاني أكسد الكربون والبصمة البيئية وإيصالها إلى الصفر.
وقالت: "نريد بناء مدينة قادرة على إنتاج مياه أكثر نقاء من المياه التي تستهلكها، قد يرى البعض أن هذا الأمر غير قابل للتحقق، ولكن علينا تذكر أن الغابات تفعل ذلك على الدوام." وأضافت: "هذا ليس مستحيلا، فشركة فورد تتبنى هذا المبدأ في جميع مبانيها ونحن في مباحثات مع شركات مثل غوغل التي تدرس أيضا هذا النموذج."
وأوضحت بينوس أن الحكومات بإمكانها تشجيع تبني الحلول البيئية عبر وضع رؤية خاصة لتحقيق الاستدامة، وإطلاق المبادرات والسياسات المستدامة، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص فيها، عبر الاعتماد في تصميم سياساتها على العلوم الطبيعية والاستفادة من خبرات علماء الأحياء والتخصصات الطبيعية لتصميم مدن المستقبل، وإدخال مبدأ التخطيط البيئي المسبق في مشاريع البناء.