تزايد السلطة السياسية العالمية للمدن - هل يمكن للأمم المتحدة مواكبة هذا الواقع الجديد؟
تحركت القضايا الحضرية، بدءاً من الاستدامة وصولاً إلى عدم المساواة، لتصدّر الأولويات الدولية على مدى العامين الماضيين. وبدأت المدن بدورها تكتسب دوراً أكثر أهمية في السياسة العالمية؛ إذ أن نمو دبلوماسية المدينة ساهم في تشكيل المئات من شبكات المدن والآلاف من المبادرات العابرة للحدود.
وأدّت هذه التطورات إلى إحداث تغيير جذري في النظام السياسي القائم، حيث ترتبط المدن الآن مباشرة بالصكوك والمعاهدات والالتزامات العالمية، دون الرجوع إلى الدول - كما يتضح من الخطوات التي تبنتها العديد من المدن لتطبيق اتفاق باريس بشأن التغير المناخي، على الرغم من معارضة الحكومات المركزية.
وتحظى هذه الجهود باعتراف متزايد، لا سيما من جانب الأمم المتحدة، التي بدأت بالتركيز على الجانب الحضري خلال المفاوضات والاتفاقات ذات الأهمية الدولية، مثل إطار سنداي للحد من مخاطر الكوارث، وأهداف التنمية المستدامة التي تلتزم بها جميع دول العالم، وجدول أعمال أديس أبابا لتمويل التنمية المستدامة.
ولعلّ أهم التطورات كان موافقة 170 دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة علی جدول الأعمال الحضري الجدید، والذي يعتبر مخططاً لتوجيه نمو المدن علی مدى الأعوام الـ30 المقبلة - في مؤتمر الأمم المتحدة للإسكان والتنمية الحضرية المستدامة "الموئل الثالث" ، الذي عقد في کیتو بالإکوادور في أكتوبر 2016.
ومع ذلك، أثارت العملية المؤدية إلى مؤتمر "الموئل الثالث" وما بعده تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت لدى الأمم المتحدة المؤهلات اللازمة لمواجهة التحديات الحضرية العالمية الكبرى. ونتج عن هذه المخاوف تعيين لجنة مستقلة لدراسة فعالية برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية "موئل الأمم المتحدة"، وهو الوكالة المسؤولة عن عمل الأمم المتحدة المتعلق بالمستوطنات البشرية والتوسع الحضري.
قدّمت اللجنة النتائج التي توصلت إليها في اجتماع رفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة في 5 و6 سبتمبر، حيث تحدثّتُ أمام حضور من الأوساط الأكاديمية وطرحت آرائي بشأن توصيات اللجنة، إلى جانب العديد من الممثلين والمندوبين الآخرين المشاركين في برنامج "موئل الأمم المتحدة".
حان وقت الإصلاح
أوضحت المناقشات أن مسيرة الإصلاح قد بدأت بالفعل، بترحيب من أعلى المستويات في الأمم المتحدة. وكما أشارت أمينة محمد، نائبة الأمين العام للأمم المتحدة في كلمتها الافتتاحية، فإن المنظمة الدولية تدرك حالياً أن "الاستجابة العالمية لإمكانيات التطور الحضري لم تكن على المستوى المناسب".
نحن بحاجة إلى تقديم توصيات جريئة، نظراً لكون العمل الحضري ضمن منظومة الأمم المتحدة مجزأ مشرذما بين مختلف أقسام المنظمة. إن المجازفة كبيرة، نظراً لأن عملية إصلاح برنامج "موئل الأمم المتحدة" تعتبر "اختباراً أساسياً لطموحات الإصلاح في الأمم المتحدة" حسب أمينة محمد، وهو من محاور العمل الرئيسية للأمين العام الجديد للمنظمة أنطونيو غوتيريس، الذي تولى منصبه في يناير 2017.
كما دعا تقرير اللجنة الأمين العام إلى النظر في إعادة تصميم جوهرية لبرنامج "موئل الأمم المتحدة"، عبر عضوية شاملة تضم جميع الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة في جمعية حضرية (مقارنة بالدول الـ58 التي تشكل حالياً مجلس برنامج "موئل الأمم المتحدة"). كما دعت اللجنة أيضاً إلى إنشاء "صندوق ائتماني" عالمي لتعزيز جهود الاستدامة الحضرية، فضلاً عن وضع هيكل حوكمة جديد، يضم مجلس سياسات ولجنة مؤلفة من الحكومات المحلية.
هذا وقدّم التقرير أيضاً مقترحات رسمية لإنشاء هيئة أخرى تابعة للأمم المتحدة، وهي "برنامج الأمم المتحدة الحضري" (UN-Urban)، لتكون جهةً للتنسيق بين وكالات الأمم المتحدة فيما يتعلق بالمسائل الحضرية، ويرأسها برنامج "موئل الأمم المتحدة". واعتبر الكثيرون أن هذه الخطوات مجتمعة تعتبر بالغة الأهمية والقيمة للأمم المتحدة لمواكبة الأهمية العالمية المتنامية للمدن.
مهمة إنقاذ
على الرغم من أن غوتيريس أيّد بالفعل النتائج التي قدمتها اللجنة في أوائل أغسطس، غير أن المناقشات خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة تلقي ظلالا من الشك على أجزاء أساسية من هذه التوصيات. وأكدّت معظم الدول الأعضاء ضرورة إصلاح وتعزيز برنامج "موئل الأمم المتحدة" بدلاً من إلغائه أو إعادة تحديد أبعاده. وحتى مع الموارد الشحيحة والبرامج الميدانية المتناثرة، لا تزال الوكالة تستحق الاحترام لقدرتها على عقد وتمثيل مجموعة متنوعة من المصالح العالمية المتعلقة بالمدن.
وبناء على ما تقدم، يظل تمويل برامج "موئل الأمم المتحدة" ضرورة حتمية يتفق حولها الجميع. من جانبها شددت جنوب أفریقیا علی المخاوف المشترکة بشأن الوضع المالي السيئ للوكالة، في حين دعت کینیا إلی "حزمة إنقاذية" عاجلة لانتشالها من الإخفاق المالي.
إلا أن عمل الأمم المتحدة المتعلق بالمدن لا يقتصر على برنامج "موئل الأمم المتحدة" وجدول الأعمال الحضري الجديد، حيث تقوم منظمة الصحة العالمية بتعزيز التركيز الحضري تدريجياً والتواصل مع المدن في إطار جهودها الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
لعبة قوى
تتطلب عملية إصلاح برنامج "موئل الأمم المتحدة" إعادة دراسة الحوكمة الحضرية العالمية، حيث أعربت العديد من الدول عن مخاوفها المتعلقة بكون الهياكل الإدارية المقترحة، والتي تشمل مجالس السياسات والجمعيات الحضرية ولجان الحكومة المحلية، غير فعالة في حال عدم دعمها وتنسيقها وتمويلها بالشكل المناسب.
في الواقع، فإن المناقشات بشأن "برنامج الأمم المتحدة الحضري" (UN-Urban) أظهرت ريبة كبيرة إزاء اقتراح اللجنة، مع تشديد كل من مجموعة الـ77 والصين (ممثلة بالإكوادور) إضافةً إلى الولايات المتحدة وروسيا، على ضرورة التريث بشأن التغييرات الجذرية.
إضافة إلى ذلك فإن هذه النقاشات سلطت الضوء على شرخ ناشئ بين الوضع الراهن لبعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، التي تنظر إلى الإصلاحات الجذرية التي تطرحها اللجنة بعين الريبة، وائتلاف مدن يعمل بشكل استباقي، ومجموعات المجتمع المدني، والشركات التي تدعم التغيير بشكل عام.
وعلى الرغم من الدور الجلي الذي لعبته المدن في اتفاقات من سنداي إلى باريس مروراً بكيتو، شككت بعض الدول في مكانة المدن كفاعل أساسي في جدول الأعمال الحضري الجديد وأهداف التنمية المستدامة. حتى أن روسيا الاتحادية أشارت إلى أن اقتراح اللجنة "قد يتسبب بتراجع دور الدول".
وبالنظر إلى تأثير الدول داخل منظومة الأمم المتحدة، فإن "برنامج الأمم المتحدة الحضري" (UN-Urban) قد لا يبصر النور، في حين أن أطروحات المدن قد تقتصر رسمياً على لجنة الحكومات المحلية. كما تحمل الإصلاحات المقترحة خطر توسيع الهوة بين الدول والمدن، بدلاً من فتح الباب أمام تحولات ثورية في الطريقة التي تتعامل بها الأمم المتحدة مع الحكومات المحلية.
وكما أشرتُ في الاجتماع رفيع المستوى – وكما تشير الأدلة المستقاة من العديد من التدخلات الأخرى، فإننا بحاجة إلى إعادة نظر شاملة في وضع المدن داخل منظومة الأمم المتحدة.
وحتى مع تخطي هذا العائق الرئيسي، يبقى الطريق إلى الإصلاح طويلاً، وتتخلله عقبات غير متوقعة. ومن المقرر أن يعين برنامج "موئل الأمم المتحدة" مديراً تنفيذياً جديداً قبل حلول نهاية العام الجاري. وحتى ذلك الحين، تقع على عاتق الأمين العام للأمم المتحدة ونائبه مهمة اقتراح تغييرات جديدة وإدخالها ضمن جدول أعمال إصلاح الأمم المتحدة، بدءاً من ربيع عام 2018. ولن يكون الحكم على قدرة برنامج "موئل الأمم المتحدة" على تحمل عبء مسؤولية أهداف التنمية المستدامة في المناطق الحضرية ممكناً قبل بضعة أشهر، ولكننا قد نشهد إعادة هيكلة أكثر جذرية للقدرات الحضرية للأمم المتحدة.