السعادة الحكيمة
ما هي مقوّمات الحياة الجيدة؟ توجد ثلاث إجابات واضحة لهذا السؤال وهي: السعادة والمتعة، والهدف والغاية، والحكمة والفضيلة. وقد ركّز علم النفس الإيجابي، وهو العلم المعني بالرفاه، حتى الآن على السعادة. كما بدأت بعض الدول الرائدة مثل دولة الإمارات العربية المتحدة وبوتان، تليهما المملكة المتحدة، في الترويج للسعادة كأحد أهداف السياسة العامة. وعلى الرغم من ذلك، لم تكن السعادة بعيدة عن متناول النقد، حيث يشير بعض الفلاسفة إلى أن السعادة ليست مهمة، بل ويمكن أن تكون مضرّة في بعض الظروف. وسأطرح في هذا المقال رأيي في مفهوم السعادة، ثم سأتطرق للاعتراضات التي تُوجَّه إليها، لنتوصل في نهاية المطاف إلى مفهوم أكثر حكمةً وتماسكًا للسعادة.
- أهمية السعادة
في رأيك، أيّ من العبارات التالية حول السعادة صحيح؟
- إذا كنت تعاني فقرًا مدقعًا، فإن امتلاك المزيد من المال سيشكل فارقاً كبيراً في شعورك بالسعادة. أما إذا كنت ميسور الحال، فستحتاج إلى زيادة كبيرة في الدخل حتى تشعر بزيادة طفيفة فقط في سعادتك.
- تُفسَّر الفروق في السعادة في الدول الغنية بالفروق في الصحة النفسية، والجسدية، والعلاقات الشخصية أكثر من ارتباطها بالفروق في الدخل بين الأفراد.
- هناك بعض الاستراتيجيات المؤكدة لتعزيز الشعور بالسعادة ومن بينها التأمل، وتوظيف مواطن القوة الشخصية بأسلوب جديد، والمعاملة الحسنة مع الآخرين، والعلاج السلوكي المعرفي، وممارسة التمارين الرياضية.
- عمل الخير خمس مرات يوميًا يؤدي إلى زيادة ملحوظة في الشعور بالسعادة في حين أن توزيع هذه الأعمال على مدار أسبوع كامل لا يؤدي إلى التأثير ذاته.
- عادةً ما يتمتع الأشخاص السعداء بصحة أفضل، ويعيشون عمرًا أطول، ويكونون أكثر نجاحًا وثراءً، ويحققون إنتاجية أعلى، ويكونون أكثر إيثارًا لغيرهم.
- يعرّف العديد من علماء النفس السعادة على أنها شعور ذاتي بالرفاه، وأنها مزيج من الشعور بالرضا عن الحياة وتغليب المشاعر الإيجابية على المشاعر السلبية.
- عادةً ما يكون الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية أقل سعادة من غيرهم.
- العلاج السلوكي المعرفي يقلل الشعور بالتعاسة إلى حد كبير لدى العديد من الأشخاص الذين يعانون من المشاكل النفسية الشائعة بما في ذلك الاكتئاب والقلق.
هل كان تخمينكم صائبًا؟ أجل، كل العبارات السابقة صحيحة. تشكّل النقاط الثمانية السابقة دفاعاً قوياً عن مفهوم السعادة. فأول نقطتين تبرران استبدال مملكة بوتان لمؤشر الناتج المحلي الإجمالي بمؤشر السعادة الوطني الإجمالي، وتبنّي أداة لقياس مستوى السعادة ومن ثم تقييم المشاريع والسياسات المطروحة. فالناتج الإجمالي المحلي ليس مقياساً مناسباً لرفاه الدول. أما النقاط 3 و4 و5 فتدعم تعيين دولة الإمارات العربية المتحدة لوزير للسعادة وتخصيص يوم كامل قبل انعقاد القمة العالمية للحكومات 2017 لمناقشة موضوعات تتعلق بالسعادة. وتبرر النقاط الثلاث الأخيرة تقديم المملكة المتحدة علاجًا نفسيًا مجانيًّا (العلاج السلوكي المعرفي في الأغلب) للأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية شائعة. ولتعزيز الشعور بالسعادة، نحتاج إلى الحدّ من الشعور بالمعاناة بما في ذلك مشاكل الصحة النفسية، وتوجد حاليًّا وسائل فعالة وزهيدة التكلفة نسبيًّا للحدّ من الاكتئاب والقلق.
- المشككون في جدوى السعادة
ربما تعتقد الآن أن الأدلة التي تدعم مفهوم السعادة أدلة دامغة، لكن الواقع أن للسعادة منتقديها، حتى إن الفيلسوف الأمريكي رايموند بيليوتي ألّف كتاباً بعنوان "المبالغة في تقدير السعادة" (Happiness is Overrated). وتكفي النقاط المذكورة أعلاه لنقض مزاعم المشككين في أهمية السعادة. فكيف يكون هناك مبالغة في تقدير أهمية السعادة إذا كانت تؤدي إلى الحدّ من المعاناة وغير ذلك من النتائج الإيجابية الأخرى؟ يشير المشككون في جدوى السعادة إلى أنه حتى لو كانت للسعادة أهمية ما، فإن الحياة القائمة على الغاية والفضيلة أكثر أهمية.
يمكن أن تكون الحجج التي يطرحها المعادون لمفهوم السعادة مقنعة إلى حدّ ما. تخيّل أنك تحيا حياةً هانئة، لكنك لا تترك أي أثر إيجابي في العالم. أو افترض أنك تستطيع اختبار السعادة المثالية عبر ارتداء إحدى نظارات الواقع الافتراضي، فهل ستكون تلك حياةً هانئة؟ إذا لم تكن كذلك، فربما يكون امتلاك غاية في الحياة أكثر أهمية من الشعور بأنك في حال جيدة. فكّر في شخص ساديّ يستمد سعادته من تعذيب الآخرين؛ هل يمكن أن نسمّي تلك حياة هانئة؟ هل شعورنا بأننا في حال جيدة يقل أهمية عن أن نكون أشخاصًا صالحين؟
يخلُص منتقدو السعادة إلى وجود مغالاة في تقدير أهمية السعادة، إلا أن كل ما يشيرون إليه هو أن السعادة ليست الأمر المهم الوحيد. لنفكّر على سبيل المثال في الحجج المماثلة لانتقاد الغاية والفضيلة. هل يمكننا أن نَصِف شخصًا بأنه يتمتع بمستوى عالٍ من الرفاه إذا كان، رغم إصابته باكتئاب حاد، شخصًا صالحًا؟ وماذا إذن عن شخص يحقق الكثير من الإنجازات ويساهم في إحداث تغييرات إيجابية كبيرة في العالم لكنه لا يشعر بالسعادة؟ هل ترغب في أن تكون هذا الشخص؟ ربما يكون رائد الأعمال العالمي إيلون ماسك مثالًا لهؤلاء الأشخاص؛ حيث كان من أبرز فعاليات القمة العالمية للحكومات عام 2017 في دبي، تلك المقابلة المهمة التي دارت بين ماسك ومعالي محمد القرقاوي وزير شؤون مجلس الوزراء والمستقبل، حين أذهل إيلون ماسك الحضور بإجابته عن السؤال الأخير: "ما النصيحة التي تقدمها للأشخاص الذين يرغبون أن يصبحوا مثل إيلون ماسك؟" أجاب الملياردير الناجح: "أعتقد أنه من الأفضل ألا يرغب أحد في أن يكون مثلي. فالحياة التي أعيشها ليست ممتعة كما يظن الآخرون. أنا نفسي لست واثقاً أني أريد أن أكون إيلون ماسك". إذن الحياة التي ترتكز على الغاية أو الإنجاز ربما لا تكون حياة جيدة إذا لم تكن تشعر معها بالسعادة.
وبهذا المنطق، سنكون مخطئين إذا قلنا إن الحياة الهانئة والجيدة هي التي تقوم على السعادة فحسب أو الغاية فحسب أو الفضيلة فحسب. الحياة الجيدة تحتاج إلى هذه المقوّمات الثلاثة مجتمعةً.
- الدورة المتكاملة للسعادة وعمل الخير والتحلي بالفضيلة
من الأقوال المأثورة عن الدالاي لاما: "إذا أردت إسعاد الآخرين فكن رحيمًا. وإذا أردت إسعاد نفسك، فكن رحيمًا كذلك". وتؤكد الأبحاث التي أجريت مؤخراً هذا الرأي وتدعم وجهة النظر القائلة بأن مكونات الرفاه الثلاثة تكمّل بعضها البعض؛ فالأشخاص الذين لديهم غاية في حياتهم وفي الوقت نفسه يتمسكون بالفضيلة عادةً ما يكونون أكثر سعادةً. وبالمثل، فالأشخاص الأكثر سعادة عادةً ما يكون لديهم غاية وهدف في حياتهم ويكونون أشخاصًا فاضلين. يمكنكم أن تبدأوا تحقيق هذه الدورة المتكاملة من السعادة والغاية والفضيلة. وفيما يلي بعض النتائج التي تؤيد هذا الرأي:
- استفادت مجموعة من السيدات المصابات بمرض التصلب المتعدد واللاتي تطوعن لدعم غيرهن من المصابين بنفس المرض سبعة أضعاف على مدى ثلاثة أعوام ممن كانوا يحصلون على المساعدة.
- ترتبط بعض الأمور التي يطمح إليها الناس، مثل تحقيق الإنجازات على صعيد العمل أو العلاقات الشخصية أو الروحانية وغيرها من القضايا التي تتجاوز النطاق الشخصي، بمستويات أعلى من السعادة الشخصية، فيما ترتبط أمور أخرى مثل السلطة بتراجع مستويات السعادة.
- أظهر المشاركون في دورة تدريبية على الإنترنت لمدة أسبوع لتعلم فلسفة الرواقية (Stoicism) القائمة على ممارسات الحكمة والفضيلة، زيادات ملحوظة في درجة التمسك بالفضيلة وكذلك في الشعور بالسعادة ووجود غاية في الحياة، في حين أظهر مشاركون في دورة تدريبية لمدة شهر كامل فوائد أكبر بكثير.
- السعادة الحكيمة
أودّ هنا أن أطرح هنا مفهوم "السعادة الحكيمة" لتغطي هذا المفهوم الأعم للسعادة والذي يشتمل على الغاية والفضيلة.
السعادة الحكيمة هي التي يجتمع فيها الشعور بالسعادة، ووجود غاية في الحياة، والتمسّك بالفضائل.
بدأ علماء وأطباء النفس في التركيز على تعزيز الغاية والفضيلة خلال العقد الماضي. واستنادًا إلى أعمال الطبيب النفسي النمساوي فيكتور فرانكل، بدأ علماء نفس معاصرون مثل بول وانغ ومايكل ستاجر طرح مقاييس مفيدة للغاية والهدف والتدخلات المصمّمة لتعزيزهما.
هناك أيضًا أعمال مهمة أخرى لقياس وتعزيز الفضائل، من أهمها أعمال روي باومايستر (ضبط الذات)، وباري شوارتز (الحكمة)، وبول جيلبرت (التعاطف والتعاطف الذاتي)، وروبرت بيسواس-دينر (الشجاعة)، وأنجيلا داكورث (المثابرة). وأنا شخصياً مهتم بتطور الحكمة العملية أو (Phronesis)، وكيف يمكن للفلسفة الرواقية أن تساعد على تعزيز الحكمة والفضيلة.
يجب أن يتم دمج هذه الأعمال التي تستهدف تعزيز الغاية والفضيلة ضمن استراتيجيات تعزيز السعادة.
وختامًا، لا يوجد مبالغة في تقدير أهمية السعادة، ويجب تشجيع تحوّل السياسات العامة من التركيز على المنظور الضيق للناتج الإجمالي المحلي إلى منظور السعادة الأوسع. تنبع أهمية السعادة من ذاتها ومن النتائج الإيجابية التي تترتب عليها. كما أن قضية السعادة تصبح أكثر تماسكًا عند تفسيرها بحيث تتضمن الغاية والفضيلة إلى جانب السعادة، فهذه المكونات الثلاثة تكمّل بعضها البعض لتكوّن دائرة متكاملة من الرفاه بمفهومه الأشمل. وينبغي زيادة التركيز على دمج وتطوير وسائل جديدة لتعزيز الغاية والفضيلة والحكمة لنشر السعادة بمفهومها الأعم والأكثر حكمة وتماسكًا.
أشار إيلون ماسك خلال القمة العالمية للحكومات 2017 أننا سنشهد قريبًا عالمًا تقوم فيه الروبوتات بأغلب الأعمال. ولمّا كان العمل الآن هو أحد المصادر الرئيسية لتحقيق الغاية والمغزى في حياة الكثيرين، فإنه في عالم تتزايد فيه مستويات الأتمتة، سوف تزداد صعوبة تحقيق هذه الغاية. لذا جاء تركيز القمة العالمية للحكومات 2018 على الابتكار والتكنولوجيا. والسؤال الرئيسي الذي ينبغي الإجابة عنه حاليًا هو كيف يمكن للتقنيات الحديثة أن تعزز الشعور بالسعادة بمفهومها الحكيم.