التثقيف المالي مشكلة سياسات عامة
مع ازياد عالم التمويل تعقيداً يبقى معظمنا وكأنه غير معني بالأمر. وسنستطلع في هذه السلسلة ماذا يعني أن نكون مثقفين مالياً.
من الشائع جداً في الوقت الحاضر أن نرى بنك الاحتياطي الأسترالي أو مكتب الإحصاءات الأسترالي يصدرون تحذيرات حول حجم ديون الأسر الأسترالية، والسبب هو أن نتائج القرارات المالية السيئة غالباً ما تصل إلى نطاق أوسع يتخطى الفرد أو الأسرة.
لقد أظهرت لنا الأزمة المالية العالمية مدى سرعة انتشار العدوى المالية، فديون فرد ما هي نفسها أصول فرد آخر، لذا عند شطب الدين فالأصل يشطب أيضاً تلقائياً. ومع ذلك، فقد طرأ تحسن بسيط على محو الأمية المالية في أعقاب الأزمة المالية إذ كان الافتقار للثقافة المالية أحد الأسباب الكامنة وراء الأزمة المالية.
وعلى سبيل المثال، كشفت الدراسات الاستقصائية قبيل الأزمة المالية العالمية أن العديد من الأمريكيين الذين يأخذون قروضاً منزلية، إما أنهم لم يقرؤوا وثائق قروضهم أو قرؤوها ولم يفهموها. وهذا يعني أنه في كثير من الحالات، لم يفهموا أنهم كانوا يوقعون على قروض تشجيعية ذات معدلات فائدة متدنية في البداية، ولكنها تزداد بعد بضع سنوات.
لقد تسبب هذا التدني في مستوى الثقافة المالية، إلى جانب الإقراض المفترس، باندلاع أزمة القروض عالية المخاطر والتي مهدت الطريق أمام الأزمة المالية الضاربة الكبرى.
ما هو محو الأمية المالية؟
يشير مصطلح محو الأمية المالية إلى القدرة على اتخاذ قرارات مالية سليمة على أساس المعرفة والمهارات والمواقف، مع مراعاة الظروف الشخصية.
ويثير انخفاض الثقافة المالیة القلق بشکل خاص فيما يتعلق بالقروض المنزلیة. وفي موازاة للوضع في الولايات المتحدة قبل ظهور الأزمة المالية، فإن نحو ثلث مقترضي الرهونات العقارية ذات الفائدة لا يفهمون أن ما يقومون بتسديده لا يحقق أي تقدم في ديونهم، وأن أسعار الفائدة ستقفز إلى حد كبير بعد انتهاء صلاحية فترة "الفائدة فقط" من القرض.
اقرأ المزيد: الأزمات المالية 101 يمكن أن تعطي دروساً للجميع
ولكن تدني مستوى محو الأمية المالية ليس هو فقط ما يزيد المخاطر، ويجب توافر التثقيف المالي المناسب من أجل تحقيق اقتصاد منتج. فالكفاءة الاقتصادية تتطلب من المقترضين ليس فقط معلومات جيدة بل فهماً اقتصادياً أيضاً، وبذلك يمكنهم موازنة تكاليف الاقتراض مع المكاسب التي يتوقعون الحصول عليها.
إذا كانت المعلومات محرَّفة سواء عمداً من قبل المقرضين أو بسبب سوء فهم المقترضين، فسوف يخطئ هؤلاء في حساب المكاسب، ما يؤدي إلى سوء تخصيص رأس المال في الاقتصاد. ويطلق الاقتصاديون على هذا الأمر اسم "الفشل في السوق"، ولقد وقع الكثير من هذا الفشل في سوق الإسكان في الولايات المتحدة قبل الأزمة المالية العالمية.
لم يسجل أي تحسن في محو الأمية المالية
تشير الدلائل إلى أن محو الأمية المالية لم تشهد أي تحسن يذكر منذ الأزمة المالية العالمية، بل ربما أصبحت أكثر سوءاً من ذي قبل.
ووجدت دراسة استقصائية حول محو الأمية المالية للبالغين في أستراليا عام 2014 أن عدد الأشخاص الذين استطاعوا أن يدركوا أين تكمن الاستثمارات كان "جيداً جداً إلى حد لا يصدّق". فعلى سبيل المثال، إن أعداد الأصول المالية التي تعِد بتحقيق عائد أعلى بكثير من العائد الجاري على الأصول المماثلة وبدون مخاطر كبيرة، قد انخفض بالفعل من 53 في المائة إلى 50 في المائة قبل ثلاثة أعوام فقط.
ووجدت الدراسة أيضاً أن نسبة أولئك الذين أدركوا أن الاستثمارات الجيدة (استثمارات ذات مخاطر منخفضة نسبياً) قد تتقلب من حيث القيمة، شهدت انخفاضاً من 74 في المائة إلى 67 في المائة.
غير أن التثقيف المتعلق بمحو الأمية المالية يجب أن يترافق مع محو الأمية العامة والقدرة على الحساب. ووجدت لجنة الإنتاجية أن 14 في المائة من السكان البالغين كانوا من أصحاب المهارات المتدنية في القراءة والكتابة في الفترة 2011-2012. ويتم تعريف ذلك بالقدرة في أحسن الأحوال، على تحديد المعلومات الأساسية من النصوص البسيطة، مع عدم القدرة في الوقت ذاته على تقييم المزاعم أو الحجج.
ووجد التقرير أيضاً أن 22 في المائة من السكان يتمتعون بمهارات حسابية متدنية، وهذا يعني أنه يمكنهم العدّ والجمع والطرح وإجراء العمليات الحسابية الأساسية الأخرى، لكنهم لا يستطيعون فهم الأفكار الإحصائية أو المعادلة الرياضية أو تحليل البيانات.
وبعبارة أخرى، فإن نسبة كبيرة من السكان البالغين الأستراليين غير مهيأة لفهم تأثير زيادة سعر الفائدة على تسديد قروضهم، أو فهم وثيقة القرض التي تتضمن زيادة نسبة الفائدة بعد انقضاء الفترة الأولية.
اقرأ المزيد: تدني مستوى الثقافة المالية لدى الطلاب يصعّب فهم الرسوم والقروض والديون
إن إصلاح مشكلة الأمية المالية لا يمكن أن ينتظر إلى حين دخول الناس في التفاوض على القروض المنزلية وبطاقات الائتمان، بل ينبغي أن يحدث ذلك بالتأكيد قبل أن يلجأ الأستراليون إلى دفع القروض اليومية.
وكان هذا هو الهدف من الاستراتيجية الوطنية لمحو الأمية المالية المعتمدة من الحكومة الأسترالية، والتي تنتهي هذا العام. وتقترح الاستراتيجية عدداً من المبادرات التعليمية، بما في ذلك إدراج محو الأمية المالية في المناهج الدراسية، إضافة إلى برنامج رسمي لتدريب المعلمين، وتطوير الموارد والأدوات التعليمية.
وتعتمد الاستراتيجية على خطوات مماثلة اعتمدتها بلدان أخرى وأوصت بها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
وتكمن المشكلة في أن المنهاجَ فضاءٌ مزدحم، لذا يجب أن يتنافس محو الأمية المالية مع أحدث التوجهات السائدة في التعليم المدرسي وكذلك مع محتوى المناهج التقليدية.
إن النضال من أجل إيجاد فسحة للمناهج الدراسية الخاصة بمحو الأمية المالية هو ممارسة سياسية يجب على الحكومات أن تقوم بها بصورة حثيثة، من خلال ربط التمويل الجدي بتحقيق مؤشرات محو الأمية المالية على مستوى المدرسة، والتدريب وإصدار الشهادات للمعلمين. إن زيادة الثقافة المالية لا تصب فقط في مصلحة الأفراد، إذ أن جميعنا سيستفيد كلما زاد عدد السكان المتعلمين.